فصل: تفسير الآيات (6- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (6- 13):

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر} ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل من قوله {لَكُمْ} قوله {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله} أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله {وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن أمرنا ويوال الكفار {فَإِنَّ الله هُوَ الغنى} عن الخلق {الحميد} المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال:
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي من أهل مكة من أقربائكم {مَّوَدَّةَ} بأن يوفقهم للإيمان، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب. و{عسى} وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين {والله قَدِيرٌ} على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أسلم من المشركين {لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم في الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ} تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً. ومحل {أَن تَبَرُّوهُمْ} جر على البدل من {الذين لَمْ يقاتلوكم} وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم في الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم أَن تَوَلَّوْهُمْ} هو بدل من {الذين قاتلوكم} والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} منكم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} حيث وضعوا التولي غير موضعه.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات} سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان {مهاجرات} نصب على الحال {فامتحنوهن} فابتلوهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن. وعن ابن عباس: امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة العلم به {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
{لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة {وَءاتُوهُم مَّا أَنفَقُواْ} وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور. نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأن ذلك في الرجال لا في النساء لأن المسلمة لا تحل للكافر. وقيل: نسخت هذه الآية الحكم الأول {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات {ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة {وَلاَ تُمْسِكُواْ} {وَلاَ تُمْسِكُواْ} بصري {بِعِصَمِ الكوافر} العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب. والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه {وَسْئَلُواْ مَا أَنفَقْتُم} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها {وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ} من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله} أي جميع ما ذكر في هذه الآية {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَئ مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد.
{فعاقبتم} فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج {فَأَتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة {واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} وقيل: هذا الحكم منسوخ أيضاً.
{يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} حال {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} يريد وأد البنات {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك، كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين {وَلاَ يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} طاعة الله ورسوله {فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله} عما مضى {إِنَّ الله غَفُورٌ} بتمحيق ما سلف {رَّحِيمٌ} بتوفيق ما ائتنف.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام: «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام: ولا يسرقن فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان: ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: إنك لهند. قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال: ولا يزنين فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا يقتلن أولادهن فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولا يأتين ببهتان فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: {ولا يعصينك في معروف} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء» وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة} من ثوابها لأنهم ينكرون البعث {كَمَا يَئِسَ الكفار} أي كما يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير {مِنْ أصحاب القبور} أن يرجعوا إليهم أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم. وقيل: هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة، كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم، والله أعلم.

.سورة الصف:

.تفسير الآيات (1- 14):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السماوات وَمَا في الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} رُوي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فنزلت آية الجهاد فتباطأ بعضهم فنزلت {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} {لم} هي لام الإِضافة داخلة على {ما} الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: (بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام)، وإنما حذفت الألف لأن (ما) واللام أو غيرها كشيء واحد وهو كثير الاستعمال في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال:
على ما قام يشتمني جرير

والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ومن أسكن في الوصل فلإِجرائه مجرى الوقف {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله:
غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، والمعنى: كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض، وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فقال: أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله.
ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفّاً} أي: صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} لاصق بعضه ببعض. وقيل: أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً {وَإِذْ} منصوب ب (اذكر) {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى} بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ {وَقَد تَّعْلَمُونَ} في موضع الحال أي: لم تؤذونني عالمين علماً يقيناً {أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني {فَلَمَّا زَاغُواْ} مالوا عن الحق {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} من الهداية، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي: خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابنى إسراءيل} ولم يقل: يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه {إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} أي: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني: أن ديني التصديق: التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، {بَعْدِى} حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه، وانتصب {مُصَدّقاً} و{مُبَشّرًا} بما في الرسول من معنى الإِرسال {فَلَمَّا جَآءَهُمُ} عيسى أو محمد عليهما السلام {بالبينات} بالمعجزات {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} {ساحر} حمزة وعلي.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وأيّ: الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإِسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه والمفعول محذوف واللام للتعليل، والتقدير: يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم، أي: بكلامهم {والله مُتِمُّ نُورِهِ} مكي وحمزة وعلي وحفص {مُتِمٌّ نُورِهِ} غيرهم أي: متم الحق ومبلغه غايته {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي: الملة الحنيفية {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلّهِ} على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام، وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ المشركون}.
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {تُنجّيكُم} شامي {تُؤْمِنُونَ} استئناف كأنّهم قالوا كيف نعمل؟ فقال: {تؤمنون} وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} ويدل عليه قراءة ابن مسعود {آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا} وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين {بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون في سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ} أي: ما ذكر من الإيمان والجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أموالكم وأنفسكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه خير لكم كان خيراً حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: إقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل: {ذلك الفوز العظيم وأخرى تُحِبُّونَهَا} ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله {نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي: عاجل، وهو فتح مكة والنصر على قريش: أو فتح فارس والروم، وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجل، وقال صاحب الكشف معناه: هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها، ثم قال: {نَصْرُ} أي: نصر هي {وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا- يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك: وقيل: عطف على (قل) مراداً قبل {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ}.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أَنْصَارُ الله} أي: أنصار دينه {أَنصَاراً لِلَّهِ} حجازي وأبو عمرو {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ للحواريّن من أنصاري إلى الله} ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} ومعناه: من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي: نحن الذين ينصرون الله، ومعنى {مَنْ أَنصَارِى} من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله والحواريون أصفياؤه، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرجل صفيه، وخالصه من الحور وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها {فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مّن بَنِى إسراءيل} بعيسى {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} به {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ عَلَى عَدُوِهِمْ} فقوينا مؤمنيهم على كفارهم {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين والله أعلم.